وصايا لحافظات كتاب الله
الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات يسّر بفضله ومنته حفظ كتابه لمعشر الأخوات والنساء الطيّبات فرأينا فيهنّ تحقيق موعود الله بتيسير القرآن للحفظ والذّكر، كما قال عزّ وجلّ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر:17].
أما بعد
فيا حافظة القرآن هنيئا لكِ فقد استعملك الله لحفظ كتابه في الأرض فكنتِ ممن حقق الله بهم موعوده
في قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
يا حافظة القرآن لا تستقلّي ما فعلت فإنّ ما بين جناحيك هو العلم
قال الله تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49].
ففي صدرك كتاب لا يغسله الماء وقد جاء في الكتب المقدسة في صفة هذه الأمة: ( أناجيلهم في صدورهم ).
يا حاملة القرآن أنت المحسودة بحقّ، المغبوطة بين الخلق
حسدكِ هو الحسد الجائز قال النبي : { لا تَحَاسُدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ فَيَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ } [رواه البخاري: 6974].
والحسد الجائز هو الغبطة وهي تمني مثل ما للغير من الخير دون تمني زوال النعمة عنه.
يا حافظة القرآن ويا أترجّة الدنيا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ } [رواه البخاري: 5007 ومسلم: 1328]
وعنون عليه في صحيح مسلم باب فضيلة حافظ القرآن.
قوله: ( طعمها طيب وريحها طيب ) خص صفة الإيمان بالطعم وصفة التلاوة بالرائحة ( لأنّ الطّعم أثبت وأدوم من الرائحة ) والحكمة في تخصيص الأترجة بالتمثيل دون غيرها من الفاكهة التي تجمع طيب الطعم والريح لأنه يتداوى بقشرها ويستخرج من حبها دهن له منافع وقيل إن الجن لا تقرب البيت الذي فيه الأترج فناسب أن يمثّل به القرآن الذي لا تقربه الشياطين، وغلاف حبِّه أبيض فيناسب قلب المؤمن، وفيها أيضا من المزايا كبر جرمها وحسن منظرها وتفريح لونها ولين ملمسها، وفي أكلها مع الالتذاذ طيب نكهة وجودة هضم ودباغ معدة.
ياحافظة القرآن أتدرين أين رتبتك
روت أمكِ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: { مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ } [رواه البخاري: 4556].
والسفرة: الرسل، لأنهم يسفرون إلى الناس برسالات الله، وقيل: السفرة: الكتبة، والبررة: المطيعون، من البر وهو الطاعة، والماهر: الحاذق الكامل الحفظ الذي لا يتوقف ولا يشق عليه القراءة بجودة حفظه وإتقانه، قال القاضي: يحتمل أن يكون معنى كونه مع الملائكة أن له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقا للملائكة السفرة، لاتصافه بصفتهم من حمل كتاب الله تعالى. قال: ويحتمل أن يراد أنه عامل بعملهم وسالك مسلكهم.
والماهر أفضل وأكثر أجرا ; لأنه مع السفرة وله أجور كثيرة، ولم يذكر هذه المنزلة لغيره، وكيف يلحق به من لم يعتن بكتاب الله تعالى وحفظه وإتقانه وكثرة تلاوته وروايته كاعتنائه حتى مهر فيه والله أعلم.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: { يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا } [رواه الترمذي: 2838 وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ].
قوله: ( يقال ) أي عند دخول الجنة ( لصاحب القرآن ) أي من يلازمه بالتلاوة والعمل ( وارق ) أي أصعد إلى درجات الجنة، ( ورتل ) أي اقرأ بالترتيل ولا تستعجل بالقراءة ( كما كنت ترتل في الدنيا ) من تجويد الحروف ومعرفة الوقوف ( فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها )، قال الخطابي: جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة في الآخرة، فيقال للقاري أرق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن، فمن استوفى قراءة جميع القرآن استولى على أقصى درج الجنة في الآخرة، ومن قرأ جزءا منه كان رقيه في الدرج على قدر ذلك، فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة.
يا حافظة القرآن هنيئا لك فقد عمرت قلبك بكلام الله وأقبلت على مأدبته
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ فَخُذُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنِّي لا أَعْلَمُ شَيْئًا أَصْفَرَ مِنْ خَيْرٍ مِنْ بَيْتٍ لَيْسَ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ وَإِنَّ الْقَلْبَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ خَرِبٌ كَخَرَابِ الْبَيْتِ الَّذِي لا سَاكِنَ لَهُ" [رواه الدارمي: 3173].
يا حاملة القرآن مبارك عليك ومبارك لك إن أخلصت الآن نجوت بحفظكِ من عذاب النيران
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ الْمَصَاحِفُ الْمُعَلَّقَةُ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يُعَذِّبَ قَلْبًا وَعَى الْقُرْآنَ" [رواه الدارمي 3185].
يا حاملة القرآن هنيئا لك بشفاعة كتاب الله فيك وحليّك يوم القيامة إن ثبتّ أعظم مما تلبسين الآن
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: { يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ حَلِّهِ فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ زِدْهُ فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ فَيَرْضَى عَنْهُ فَيُقَالُ لَهُ اقْرَأْ وَارْقَ وَتُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً } [رواه الترمذي: 2839 وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ].
يا أم حافظة القرآن هنيئا لك بابنتك
وعن بريدة قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: { تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلا يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ ( أي السحرة ) قَالَ ثُمَّ مَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ يُظِلانِ صَاحِبَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ وَإِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ فَيَقُولُ لَهُ هَلْ تَعْرِفُنِي فَيَقُولُ مَا أَعْرِفُكَ فَيَقُولُ لَهُ هَلْ تَعْرِفُنِي فَيَقُولُ مَا أَعْرِفُكَ فَيَقُولُ أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا فَيَقُولانِ بِمَ كُسِينَا هَذِهِ فَيُقَالُ بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلا. } [رواه الإمام أحمد: 21892 وحسنه ابن كثير وهو في السلسلة الصحيحة للألباني: 2829].
يا حافظة القرآن إن المحافظة على القمة أصعب من الوصول إليها
عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: { تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا } [رواه البخاري: 4645].
قوله ( تعاهدوا ) أي استذكروا القرآن وواظبوا على تلاوته واطلبوا من أنفسكم المذاكرة به لا تقصروا في معاهدته واستذكروه … من شأن الإبل تطلب التفلت ما أمكنها فمتى لم يتعاهدها برباطها تفلتت، فكذلك حافظ القرآن إن لم يتعاهده تفلت بل هو أشد في ذلك. وقال ابن بطال هذا الحديث يوافق الآيتين: قوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5] وقوله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر:17]
فمن أقبل عليه بالمحافظة والتعاهد يسّر له ومن أعرض عنه تفلت منه. [فتح الباري].
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { مَثَلُ الْقُرْآنِ مَثَلُ الإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إِنْ تَعَاهَدَهَا صَاحِبُهَا بِعُقُلِهَا أَمْسَكَهَا عَلَيْهِ وَإِنْ أَطْلَقَ ذَهَبَتْ } [رواه البخاري: 4643].
فيا حافظة القرآن لا تزحزحي نفسك عن هذه الرتبة العالية بعد إذ نلتيها
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: "اختلف السلف في نسيان القرآن فمنهم من جعل ذلك من الكبائر، قال الضحاك بن مزاحم: ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب أحدثه لأن الله يقول: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]
ونسيان القرآن من أعظم المصائب.
وجاء عن أبي العالية رحمه الله: كنا نعد من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن ثم ينام عنه حتى ينساه. وإسناده جيد. ومن طريق ابن سيرين بإسناد صحيح في الذي ينسى القرآن كانوا يكرهونه ويقولون فيه قولا شديدا … والإعراض عن التلاوة يتسبب عنه نسيان القرآن ونسيانه يدل على عدم الاعتناء به والتهاون بأمره … وترك معاهدة القرآن يفضي إلى الرجوع إلى الجهل والرجوع إلى الجهل بعد العلم شديد. وقال إسحاق بن راهويه: " يكره للرجل أن يمر عليه أربعون يوما لا يقرأ فيها القرآن. " أهـ
يا حافظة القرآن قومي به وأكثري درْسه تعيشي به
قال الذهبي في السّيَر: قال أبو عبد الله بن بشر: ما رأيت أحسن انتزاعا لما أراد من آي القرآن من أبي سهل بن زياد وكان جارنا وكان يُديم صلاة الليل والتلاوة فلكثرة درسه صار القرآن كأنه بين عينيه.